google.com, pub-2715080204716401, DIRECT, f08c47fec0942fa0 google.com, pub-2715080204716401, DIRECT, f08c47fec0942fa0 فصل من رواية (صحّ النوم) ليحيى حقي - عجبني فصل من رواية (صحّ النوم) ليحيى حقي

القائمة الرئيسية

الصفحات

فصل من رواية (صحّ النوم) ليحيى حقي

https://www.agbne.com/

 

بسم الله الرحمن الرحيم

فصل من رواية (صحّ النوم) ليحيى حقي

 

فترة تَرَيُّث

إنني أكتب هذه المذكرات ، مُقطّعةً ، على مهل ، أنتزع لها الوقت انتزاعا ، ولكني لا أبدأ فصلا جديدا إلا اذا تلوت بعينِ الغريب كل ما سبقه كلمة كلمة ، فبهذا وحده يدخُل الكاتب من جديد في الجو الذي تركه ، ويتّسق أسلوبه ، وتشربُ فصولُه كلها من مَعينٍ واحد ، ولو ترك نفسه ـ وهو بشر ـ عبداً للساعة التي هو فيها لتباين قوله في غير مطلبٍ فنّيّ ، فهو حيناً نشطٌ ساخر ، وحيناً ضَجٍرٌ ملول ، وأحسَّ القارئ الناقد أنه يسير في طريق غير مستوٍ ، بعضُه مُعبّد وبعضُه مليءٌ بالحفر، ولهذه التفلية نفعٌ آخر ، فإنها تُعين على اصطياد الألفاظ الكاذبة ، ولِبعض الألفاظ طبائع الطفيلي ـ تندس في الكلام - ، كأنما بدافع الغيرة توهم أنها خير لباس يصلح للمعنى في حين أنها تفسده وتقلب جدّه مزاحا ومزاحَه سماجة ، فيُقصيها الكاتب بعد أن برأ من خداعها إلى الألفاظ الصادقة، فتأتي له على استحياء ، شأنَ كل حرٍّ أنوفٍ لقيَ من قبلُ صدّاً .

وقد يرى الكاتب أنه رفع بعض البديهيات الى مصافِّ الحكم ، أو أنه أوجز قولاً مغمضاً وكان يحسبُهُ في نجواه لنفسه بيّناً ، أو أنه أتى بأدلة أخرى بعد البرهان القاطع ، وقد يرى أنـه سقط فريسة سهلة في حب لفظٍ واحد فهو يتكرر كل سطرين أو ثلاثة ، فيعجب كيف فعل هذا ، ويلوم نفسه ، ويُجري قلمه بإزالة هذا الشطط ، ولعله يزيلُه بشططٍ جديدٍ أشدَّ نُكراً وحماقة .

وأنا حين أحببت اليوم أن أمضي بهذه المذكرات الى غايتها لأستريح منها، وتلَوتُ ما سبق من الأوراق؛ لم أتمالك نفسي من أن أتريثَ قليلاً ، يعترضني سؤالٌ يجُولُ بذهني : أتُرَاكَ أنصفت حقاً وصف قريتنا كمـا هي نيتـك ؟

إن حديثك عنها هو الهامش لا المتن ، إنك اقتصرت في الكلام على بعض الناس دون بعض ، وخصصت باهتمامك الحَانَ وحدَهُ وروّادَهُ ، لأنك واحدٌ منهم ـ وهم شواذ* - ، وَصَفتَهم اشتاتاً لا يجمعهم رباط واحد ، شأن ضيوف « الألبوم » ، الغـريب في قفا القريب ، أو كهذه المرايا المضحكة في حدائق الملاهي ، مصطفّة جنباً لجنب تنطلق للمارِّ أمامَها برسومٍ متباينة ، وما هي جميعاً إلا رسمُهُ هوَ ، فلم يُخفِ وصفُك للأشخاص - رغـم تحايلك على التستر ـ انعكاس صورتك أنت ، وأجريتَ على ألسنتهم كلاماً لا يُتَوَقَّعُ من أمثالهم . ـ وهو كلامك أنت ، وهذا تطفُّلٌ أو غرور ، أو كلا الوِزرَيْن معا .

 وليس لي من إجابة على هذا السؤال إلا ابتسامةً تذوب في صمتها حُجّتُه ، نعم ، لعلي أرهقت القارئ ، والناس تحب اليوم أن تقرأ للتسلية ، ولكنه لو منحني بعضَ ثِقَتِه فسـيـرى بعد قليل أنه سيعيد تقليب « الألبوم » فيبدو له أهلُه في صورة جديدة ويرى رِبَاطهم ، فإن الكاتب يحب أحياناً أن يَتخَابَثَ فيحجِزُ في يده بعض أوراق اللعب لا يكشفها إلا حين يحـلو له ، متى قدّرَ أنّ صبرَ القارئ قد تداعى أو أن لهفته قد بلغت أقصى مداها.

 ويعلم الله أنني ما أردت التخابث وإنما هكذا انشقّ الدربُ أمامي ، ولو استطعت أن أجمع كل ما عندي في صفحتين لفعلت ؛ ولو اهتديت الى نسقٍ آخرَ أكثرَ تسليةً للقارئ لما عَدَلْتُ عنه، فكيف يُنَغِّصُ عليه مَن يطمعُ في الفوز بوِدِّه ؟

واقتصرتُ على وصف بعض روّاد الحان ، وتركت بقيّتَهم خشيةَ الإطالة ـ لأنهم هم الذين وجدتُ في حياتهم عبرة ، هم الشواذ* ، مُقدَّرٌ عليهم ـ وهذا دورهم المقسوم لهم في دنيـانا ـ أن تترکّز فيهم حدة المتاعب والمشاكل الموزّعَة ـ حتى تبدّدَ أثرُها -بين العامة ، فهم خير من ينطق بما هناك ، وهم أيضا ـ وهذا عدلٌ تحت قناعٍ من الظلم ـ أوّلُ من يتلقّى الصدمة اذا أصيبَ كيان المجتمع بهزة ، كالنتوء البارزة في الجذع ، عنوان سر الشجرة ، ومكمن الحياة لفروع جديدة ، أوّلُ ما يسقط اذا أريد تهذيب هذا الجذع.

 أما بقية أهل القرية فهم ملحُ الأرض ، يكسبون رزقهـم بشقِّ الأنفس ، يكابدون ـ كالحيوان ـ من مطلع الشمس الى مغربها ، عملاً مُرهِقاً تُنجِزُه الآلات في بلاد أخرى بأيسر جهـد ونفقة في وقت قليل . وليتهم بعد ذلك فازوا بما يُقيمُ أوَدَهُم أو يستر عُريَهم - وهم مع ذلك قانعون . حارُوا في فِهم القَدَر ، وتعليل أسبابِ الخَلل ، وطال تساؤلهم متى تنتهي المظالم وتنعَـِدلُ الأمور ويستقيم المُعْوَجُّ ويَعُـُّم السـلام ؟

وهم مع ذلك صابرون ، أصبح مطلبُهم الأوحد أن يُتْرَكُوا لأنفسِهم ، لنسائهم وعيالهم ، لدوابِّهم وشقائهم ، لإيمانهم وخرافاتهم . كلُّ جديدٍ في الحياة عندهم ضئيلٌ اذا قيس إلى قديمِهم . وإنَّ أمنع الدروع هو الذي يلبَسُه مَن لا يُبالي .

إذا قالوا « إنما الأعمال بالنيّات » عَنوا بها : إنما الأعمال بخواتیمها ، واذا لم ترَ وجوههم مبتسمةً أغلبَ الوقت فلأنهـم يضحكون في سِرِّهم من الخطيب والبهلوان ، والواعظ والمهرِّج.. خلّيها على الله !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* معنى شواذ أي المنفردون عن الجماعة المخالفون لهم.


تعليقات

التنقل السريع